يقتحم الكاتب والباحث ماهر فرغلي الحالة السلفية المصرية، في محاولة سماها "محاولة لفهم الحالة السلفية"، في كتابه الجديد "سراديب السلفيين" الصادر عن دار كنوز للنشر والتوزيع، متصورًا في النهاية أن القارئ سيدرك تماماً خطورة ما يتحدث عنه كتابه وأهميته، نظرًا لانتشار التيارات السلفية، وخطورة دورها الآن، لأن ما كتبه سيمكننا أن نتعرف على ملامحها وتمايزاتها وخريطتها التفصيلية والتوقعات لمستقبلها من خلال محاولة للفهم، ومقاربة للسلفيات المتنوعة.
يقول فرغلي: ليس ثمة شك في أن التيار السلفي لم يكن حاضرًا فى المشهد السياسي المصري قبل 25 يناير، لقد آثر الانصراف إلى الدعوة والإرشاد على الانخراط فى حكومات اعتبرها فاقدة الشرعية، لأنها لا تحكم بالشرع الإسلامي، هكذا، نبذ الديمقراطية لكنه قفز فجأة إلى حلبة العمل السياسي، وانقلب أغلب التيار على مواقفه وذهب ناحية السياسة، وخرج من الشرنقة إلى المشاركة في فعاليات وخطوات التغيير، لنشهد تحولات في المدارس السلفية المتنوعة، ومزيد من الأحزاب الإسلامية، وملامح جديدة لم تقف عند حد معين، خاصة بعد 30 يونيو 2013، لكنها تعدت ذلك بكثير جداً، وقد يختلف معي الكثيرون أو قد يتفقون، لكنني في هذا الكتاب أستكمل المسيرة في مناقشة واحدة من الحركات الإسلامية، وتيار هو ضخم بالفعل، لكي نستخلص العبر ونستفيد من تجارب النجاح، ونتوقى جوانب الفشل والانهيار والتراجع للأمة، ونعرف إلى أى مدى استطعنا أن ندرس تجاربنا مع ذاتنا ونراجعها، ونصدر تقييمات حقيقية لمسيرة التشكيلات الإسلامية بكل ما فيها من جوانب النجاح ونواحي الإخفاق.
كتاب ماهر فرغلي الذي بلغ أكثر من 300 صفحة، هو من القطع المتوسط، وصادر عن دار كنوز بالقاهرة، هو الكتاب السابع للمؤلف عن الحركات الإسلامية، إذ سبقه رواية الشيخ عبادة الصادرة عن دار ميريت، والخروج من بوابات الجحيم الصادرعن دار الانتشار العربي ببيروت، وهو الكتاب الذي تم مصادرته ايام حكم افخوان، وحقق ذيوعاً وانتشاراً كبيراً، بالإضافة لكتب أخرى عن التشيع في مصر والتنظيمات الجهادية.
يبدأ فرغلى "سراديب السلفيين" بسرد الأسباب التي جعلته يكتب كتابه، فيقول:
لم تكن لدي معلومات كافية عن السلفيين، إذ أن الجماعة الإسلامية التي انتميت لها فترة دراستي بالجامعة، كانت لها فضاء خاص تصنعه لمعتنقي أفكارها، وكان من الصعب القفز على الحدود المرسومة لنا، ومنها التعارف والالتقاء بأفراد جماعات أخرى ومنها الإخوان أو التيار السلفي، الذين كنا نصفهم أنهم "جماعة فقه الحيض والنفاس".
لم ألتق يومًا بسلفي إلا حينما ذهبت إلى مقرهم الوحيد بمحافظة المنيا، وهو مسجد "المبره" بشارع الحسيني، لحضور نقاش علني، بين أحد قادة الجماعة الإسلامية، وهو صفوت عبد الغني، وشيخ السلفيين في المنيا، إبراهيم زكريا، الذي كان من مؤسسي الجماعات الإسلامية في السبعينات، وكان يتصف بأنه "برميل علم"، وهي الصفة التي كنا نطلقها على حفظة أمهات الكتب التراثية، وأبحاث الحركة الإسلامية.
كان لقاءً حاشدًا، جمعت له الجماعة الإسلامية أتباعها، وحشد له السلفيون أنصارهم، إذ أنه سيكون نقاش علني بين صفوت، الذي هو أفضل الجماعة من ناحية قدرته على الحوار والنقاش، وبين زكريا أبو السلفية العلمية بالمنيا.
لفّنى الصمت وأنا أتابع صفوت وهو يعرض بذكاء على إبراهيم زكريا أن يبدأ الحديث قبله، لكن الرجل بتواضع رفض، وهو ما كان يرغب فيه الأول، الذي أخذ الميكروفون، ولم يتركه إلا بعد أن شرح بحث الحاكمية كاملاً، والأدلة التي كان يحفظها عن ظهر قلب من كتاب "أصناف الحكام وأحكامهم" لشيخه عمر عبدالرحمن.
أخيراً أخذ إبراهيم الميكروفون، وأخذ يسرد أدلته على أن الحاكم مسلم، واستدل بأقوال بن القيم، وبرقم الصفحات، ولم يكمل سوى جملتين، إلا وقاطعه صفوت قائلاً:
"الصفحة اليمنى أم اليسرى؟"
ارتبك إبراهيم، وفي تلك اللحظة، جاء أحد اتباع صفوت، وقال له إن الأمن وصل وعليك الانصراف، فوجد قائد الجماعة الحجة جاهزة للهروب، من استكمال النقاش، الذي كانت ستنهزم فيه الجماعة الإسلامية، وينتصر فيه زكريا، الذي يحفظ المتون والشروح.
هرب عبد الغني، بعد ترتيب واضح من أتباعه، وبقي زكريا يضرب كفاً على كف، لأن صفوت هزمه أمام الآلاف عرض تكفير الحاكم، وهو لم يستطع عرض الأدلة على إسلام الحاكم المستبدل.
ظللت أيامًا تسرقني الفرحة من حرفية صفوت في الحوارات العامة، وكيف يتفوق دائمًا في قيادة مظاهرات الجامعة، أو تغيير المنكرات، وكذلك هزيمة السلفيين، ولم أفكر فى أن الطرف الثاني لم يأخذ فرصته في الحوار.
مرت سنون، حتى مررت من أمام مسجد "المبره"، رأيته خاويًا على عروشه، إلا من بعض المصلين، وسألت عن السلفيين، فعرفت أنهم منشغلون بمؤتمر لأحد مرشحيهم للبرلمان.
كان يبدو أن مفهوم السلفية العلمية، في أضعف مستوياته، وأن القلب السلفي الآن لا يذعن إلا لحديث السياسة ومداخيلها، وأن "براميل العلم" ألقيت بجوار مقر مجلسي الشعب والشورى.
إنه أراد من خلال هذه الأسطر أن يؤكد على توجه السلفيين ناحية السياسة وتحولاتهم الأخيرة التي دفعته للحديث عن خريطتهم وكياناتهم وأفكارهم، فقال في جزء آخر من الكتاب، بعد أن عرض للبوابات التي دخلت منها السلفية إلى مصر وتعريفها وتقسيماتها: لم تطرأ تحولات تذكر على ملامح السلفيين وأفكارهم ويكون لها تأثير على انتماءاتهم، ومآلاتهم، سوى التحول للعمل السياسي بعد عقود من الرفض والتحريم، فمن المسلَّم به أن التمسُّك بالثوابت من المفاهيم الأولية التي يربِّي السلفيون أتباعهم عليها، وتلك في الحقيقة من أبرز مميزات السلفيين، ولكن المشكلة أنَّ ملامح السلفيين تندرج تحت مسمى «الثوابت الخاصة» لكلِّ جماعة أو اتجاه رغم أنها ملامح عامة، لكن قدسية الشيخ لدى التيارات السلفية يزيد من معدلات التحول وتبديل الآراء والمواقف، استناداً إلى أن عمليات التحول في غالبيتها تغيِّر في الموقف من هذه «الثوابت الخاصة»، وليس ثوابت الدين أو ثوابت المنهج السلفي بصورة عامة.
ما سبق دفع الكاتب للحديث عن رؤية السلفيين للعمل الحركي، فقال: ويبقى العامل الأكثر إثارة للقلق هو احتمالية عودتهم للعنف. يرى العديد من المثقفين المصريين أن جذور المشكلة لم يتم تناولها بعد، فالعنف فى مصر توقف ولكنه لم ينتهي. مع خروج أكثر من عشرين ألفا من الجهاديين السابقين من السجون مؤخرًا وهم محظورين من ممارسة أى دور سياسى، هل تمثل السلفية المنبع الجديد للحركات الراديكالية من العقود السابقة؟ يشير هويدى أن استمرار غياب البدائل السياسية، واستمرار الحكومة فى استخدام العنف ضد معارضيها وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، يؤدى إلى دفع المصريين بشكل متزايد نحو الرؤى الجامدة والمتصلبة للسلفية، وذلك يجعل العودة إلى العنف أمرًا مرجحًا. من المحتمل أن الهجوم الإسرائيلى الأخير على غزة قد يزيد من الزخم. كتب رئيس تحرير جريدة الدستور المستقلة إبراهيم عيسى مؤخرا أن التطرف الإسلامى سيزيد بكل تأكيد بسبب الحرب والتصور أن موقف الحكومة المصرية تجاه حماس كان ضد الإسلام نفسه. مثل هذا التصور من شأنه أن يعزز من الميول التكفيرى داخل السلفية ومناشدة الإسلاميين الآخرين بانتهاج نفس التفكير.
وفى حديثه عن التطورات الحادثة فى المشهد السلفي تعرض لتثوير السلفيين عن طريق بعض الحركات مثل حركة "حازمون" فقال: المشكلة الحقيقية ليست كامنة في ما سبق ولكنها تكمن في تفاصيل المشهد الذي يشبه إلى حد كبير جدًا ما حدث بالجزائر في التسعينات من القرن المنصرم، من جماهير غير واعية منساقة إلى صدام حقيقي مع الجيش، وخطاب تعبوي ينطلق من عدالة القصد وهو الشريعة، ومن حق مطلق لا يقبل مراجعة باعتبار أن الشريعة معنية بحكم الناس، وفي النهاية يحتدم الصراع ويؤدي إلى عبقرية في الإخفاق تتعلق بسفك الدماء ونهب الأموال، والعنف المتواصل، مثلما أدخلت الجزائر في دوامة لا نهائية لم تخرج منها إلى اليوم، ومثلما حدث في مصر فترة التسعينات، حتى انتهى ذلك لما يسمى بمراجعات وقف العنف وتصحيح المفاهيم.
استدعاء الماضي بدأ، ونفس المشهد تقريباً يتكرر، حيث عشرات الآلاف من أتباع أبو إسماعيل يسيرون صفوفاً وهم يهتفون من مسجد الفتح في قلب العاصمة، ويقطعون الطريق والمواصلات حتى مقر اللجنة الانتخابية، ويتكرر المشهد بشكل أضخم في ميدان التحرير حيث الاحتجاجات والمظاهرات التي تواصلت إلى نهاية النهار، وكان الختام هو مسجد "أسد بن الفرات" الذي شهد عشرات الآلاف في المؤتمر الصحافي، وأمام عدسات المصورين، لنشهد تصدير خطاب العنف السيئ بالهتافات المعادية للمجلس العسكري، والمطالبة بإعدام المشير، والصيحات التحذيرية لكل من يعارض التيار الإسلامي، بينما أبو إسماعيل يلف ويدور لإثبات أن أمه مصرية، ويقول للشباب الثوريين، "أنتم الذين ستفكون أسر مصر... أما هؤلاء الذين رضوا واستكانوا - يقصد باقي الحركات الإسلامية التي نكصت وتراجعت عن نصرته - فلا تتباكوا عليهم... إننا في رباط، والرباط بدأ من الآن... !!.
وتوقع فرغلى أن تتعرض مصر في الأيام المقبلة لمجموعة من المشكلات والتحديات بسبب تيار "السلفيون الثوريون"، فيما تتعرض باقي التنظيمات السلفية إلي هزات داخلية عميقة، حيث ستساعد بنيتهم غير المهيكلة تنظيميًا بشكل حزبي على وجود أكثر من تصور مختلف، وعلى مجموعة من التحديات أهمها الفصل بين الدعوي والسياسي، وهو التحدي الذي لا يمكن مواجهته بسهولة بسبب منطق الخلاف بين الجماعة الدينية ومنطق الحزب السياسي، فالحركات الإسلامية بصفة عامة والسلفية بصفة خاصة تتميز بالتزامها والأيديولوجي، بما يعني الصدام بين السياسي والأيديولوجي، وبما يعني الصدام بين شباب متحمسين، يريد أحد المرشحين استثمارهم إلى أبلغ حد، وبين دولة أقل ما يقال فيها الآن أنها تمر بمرحلة مخاض صعبة.
كان الأخطر فى الكتاب هو مآلات الحركات السلفية ومستقبلها، إذ أن الكاتب وهو يتوقع ذلك كتب عن ما بعد السلفية، قائلاً: أفضى الإسلام السلفي، في ضوء تحولاته أخيراً داخل مصر، إلى «سلفية سياسية جديدة» متنوعة، تعنى بتوطيد الهم السلطوي قبل الهم الدعوي، وانقلاب الأولويات لتصبح الدولة والأمة في البداية قبل الإسلام التربوي والدعوي، بما يؤكد أننا لسنا أمام السلفية التقليدية التي تهتم بالدعوة والتربية من دون خوض غمار العمل السياسي، والسلفية الإصلاحية التي أجازت العمل السياسي، وقبلت بالعملية الديموقراطية، أو السلفية الجهادية التي تؤمن بجواز الخروج على الحكام. لكننا أمام مرحلة جديدة، انتهى فيها عصر السلفية، إلى «ما بعد السلفية» التي انتقلت من الإيمان بالأفكار الإسلامية العامة المستقاة من النموذج الإسلامي التاريخي، إلى الإيمان بالعمل السياسي، والتحول إلى معنى جديد يتكيف مع تطور المشهد المصري، وينسلخ تدريجاً من كل المرحلة التاريخية القديمة، إلى حالة تتجاوز كل القديم.
ليست «ما بعد السلفية»، «ليبرو سلفية»، بمعنى أنها تتحول ناحية الليبرالية، إذ ساعتها لن تكون السلفية التي تستند إلى موقف اجتماعي نابع من استعادة الأصل الديني النقي بطريقة نصوصية؛ بعيداً من الفكر السائد، وبهذا فهي في الأساس حركة دفاعية عن أصول الدين، تدعو إلى هيمنة منهج السلف وعلومهم، وأن تكون مركزية العلم الديني هي مركزية التفاضل بين المنتمين لها، وإعمال العقل الفقهي في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية عموماً للمسلمين، وهذا يختلف في مجمله عن الليبرالية، حتى لو غيّر السلفيون مواقفهم من بعض «الثوابت الخاصة».
كما أنها ليست سلفية ديناميكية، تقوم على ما نسميه النهج التبديعي (نسبة إلى البدعة) وإخراج مخالفيها عن زمرة أهل السنة والجماعة، أو ذات نزعة كلاسيكية تنقد الواقع وتشخّص أسباب انحطاطه، ولا تريد أن تتعامل معه، وعندما نفهم السلفية بوصفنا بعض المواقف السياسية، أو بوصفنا التقليدي الإصلاحي لها، فإننا مخطئون. «ما بعد السلفية» هي المرحلة الجديدة التي استطاعت أن تتجاوز نفسها بعد أن احتكت بالديموقراطية التداولية الحقيقية، وبعد أن رأت قدرة وإمكانية الآلة الديموقراطية على إنجاز الأفكار نظرياً وإنجاحها عملياً، كما استطاعت أن تعيد إنتاج خطابها الكلاسيكي لتكسبه طابعاً جديداً قابلاً للحياة في مجتمع علماني. أنتجت «ما بعد السلفية» خطاباً جديداً تحول من الأخلاقي إلى السياسي، وكذلك ملامح جديدة، لم تقف أمام بعض الثوابت، واعتبرتها منتجات فكرية نابعة من اختلاف الرؤى واكتشاف خبرات السلف ودلالتها من جديد، مثل مفهوم الدولة الوطنية، الذي كان مؤسساً سابقاً على سيادة مبدأ الأخلاق وقيم ومبادئ السلف حتى في النموذج السياسي للدولة. كما أن ثمة تغيرات عميقة تشكلت في نوعية ودرجة الحضور المجتمعي لما بعد السلفية، فبعد أن كان ذا سمات دعوية في المقام الأول ودرجة حضوره عالية في مستوى الطبقة المتوسطة، راح يتشكل الآن بين الفئات كافة، وراح أتباعها الجدد يشاركون في اتخاذ مواقف في كل ما يُطرح على الساحة المجتمعية، بخاصة السياسي منها كالجدل الذي دار حول أيهما أولاً الدستور أم الانتخابات؟ ووثيقة المبادئ الدستورية، على سبيل المثال.
ولم يعد الإطار الجماعي أو التنظيمي مشكلة، إذ أصبحت «ما بعد السلفية» تفضِّل العمل في إطار جماعة منضبطة لها هياكلها التنظيمية المعلنة، وحولت الملامح الجديدة المُمارسة السياسيّة بعد الثورة المصرية الاعتقاد من عدم المشاركة في العمل السياسي لأن النظم السياسية الحديثة ليست إسلامية، إلى إنشاء أكثر من 10 أحزاب سلفية، والانتقال إلى خريطة جديدة، أضحت الآن في منافسات متواصلة مع جماعة «الإخوان»، مثل «النور، الفضيلة، الأصالة، البناء والتنمية، الإصلاح والنهضة، الراية... إلخ».
غيّرت خريطة «ما بعد السلفية» حالة الإسلام السياسي في مصر، ورجّحت مجموعة من التحولات والتغييرات أصابت كل التيار وكياناته بالكامل، فقفزت على السلفية الاجتماعية المؤسساتية التي مثلتها «جماعة أنصار السنة المحمدية»، و «الجمعية الشرعية»، و «السلفية العلمية» التي تؤمن بالتصفية والتربية والعلم، وكذلك السلفية الحركية، أو سلفية التزكية والتربية، وانتهى هذا العصر تماماً، وظهر «التيار الثالث»، وهو الذي تتآلف تحت مظلته أربع حركات فرعية، هي: «الجبهة السلفية، وحركة طلاب الشريعة، وتيار الإسلام الجديد، وحركة أحفاد صلاح الدين»، فيما تتوحد هذه الحركات بينها على ما تصفه، بالتصدي لبراغماتية الإخوان والسلفيين.
كما نشأ «الإسلاميون الثوريون»، (حركة أغلب أفرادها من التنظيمات الجهادية القديمة «الوعد - العريش - تنظيم الغردقة)، ونشأت حركة «حازمون» التي تنتمي إلى المرشح الرئاسي المحتمل حازم صلاح أبو إسماعيل، كما سبقتها مجموعة من الكيانات الجديدة، أولها «الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات»، التي حددت أهدافها في إيجاد مرجعية شرعية والعمل على وحدة الصف، و»الجبهة السلفية» وهي رابطة تضم رموزاً إسلامية وسلفية مستقلة، كما تشكل «ائتلاف شباب مصر الإسلامي» - ائتلاف غالبية أفراده من التيار السروري، ثم تشكل «ائتلاف دعم المسلمين الجدد» الذي اهتم بالقضايا الطائفية في شكل خاص، وقبلها نشأ «سلفيو كوستا» وهم مجموعة من الشباب السلفيين، وظهروا في نيسان (أبريل) عام 2012 عقب الاستفتاء على التعددية الدستورية، وأعلنوا أن أهم أهدافهم هو التقريب بين التيارات في شكل عصري.
السلفية الآن مرحلة مضت باتجاه جديد، وملامح أخرى، وخريطة متجددة، إذ إن هدفها الذي شُكلت من أجله بات يندثر، وخطابها الرسمي أصبح مختلفاً، بعد أن عاشت هاجس السلطة والحكم من جهة، وأنها دعوية من جهة أخرى، وأصبحت متطلبات وطبيعة أدوار ما بعدها تختلف وتتناقض مع القديم، لا سيما أن ذلك بدأ يفرز حالة من الاختلاف والصراع والتصادم في بنيوية هذه الحركة وتركيبتها المنظمة، في اتجاه «ما بعد السلفية»، والتي نظن أنها تمثل الآن المنتج النهائي لها.
أخطر ما فى الكتاب هو الحديث عن السلفية الجهادية، والذي كشف الكاتب فيه أن البيانات المتوالية للتيار "السلفي الجهادي" .. والتي ظهرت فجأة في مصر بعد نظام مبارك، يمكن أن تصل بنا إلى أنه لا تعارُض مطلقا بين مدى استمرارية أفكار بن لادن، ومدى التحولات التي يمكن أن يكون عليها هذا التنظيم بعد تلك التغييرات السياسية التي حدثت في مصر.. وهذا المحدد هو أن القاعدة وتنظيماتها الفرعية طوال تاريخها تعتمد على البحث عن نقطة ارتكاز آمنة للتنظيم والانطلاق منها، والتي من المرجح أن تكون قد أصبحت هي مصر أو الدول التي اتسعت بها حاليًّا مساحة الحرية للإسلاميين.
ببساطة سنجد أن القيادات الحقيقية للتنظيم هي مصرية ولم تكن بن لادن في المقام الأول، كالظواهري وأبو عبيدة البنشيرى.
كما أن اعتماد القاعدة على عدم المركزية الإدارية واستقراره دائما ً في منطقة بها فوضى سياسية، وتركيزه جهده على الخارج المُحتل أو ما يسمى في أدبيات هذه التنظيمات بالعدو القريب والعدو البعيد يدلل على أن مصر كدولة غاب فيها المشهد الأمني ستصبح نقطة آمنة وفاعلة مرجَّحة للظهور، بعد فترات طويلة بحث فيها أتباع الظواهري عن نقاط آمنة ينطلقون منها لحربهم غير الطبيعية على العالم.
وحينما أعلن الظواهري وقف عملياته في مصر لعدم القدرة، لم تكن عينه تغيب عنها.. لأنها المكان الحقيقي الذي يفرز أكبر عدد من القياديين في عمليات القاعدة، ولأنه وغيره من الجهاديين الإسلاميين حول العالم يرون أنه يجب التركيز على الاستيلاء على الحكم فيها؛ لتكون القاعدة والمنطلق الذي تنطلق منه عملية التغيير الإسلامي إلى جميع أنحاء العالم.
ولا يوجد خلاف أبدا على أنه لا تأثير على ما حدث من تغيير نظام مبارك أو وصول الإخوان للحكم على رؤية ووضع القاعدة.. حيث إن الإخوان أنفسهم هم أول من شكلوا جناحا ًعسكريًّا ً.
وقال الظواهري في إحدى رسائله المصوَّرة: "إن التغيير في مصر يمكن أن ينجح إذا راعى العاملون له سُنن التاريخ وطبائع الشعوب، وحرصوا على توفير مقوماته، وانتهاز فرصه، ومن أهم مقوماته وجود القاعدة الآمنة وحشد التأييد الشعبي".
ربما كان هناك نقص في معلومات تفصيلية عن الجهاديين الجدد وطبيعة هيكلتهم وجوانب التميز والضعف فيها، بسبب أنها تنظيم سرى، ولا يعتمد على العلنية.
لكن تظل هناك أمور واضحة هي أن الجهاديين الجدد في طبيعة علاقتهم بجماهير الناس لهم طبيعة منغلقة، ويفضلون الانتقائية عبر قضايا تعميمية أغلبها حاليًّا هو عدم انتفاء الأسباب التي تمنع من الجهاد مثل مشكلة فلسطين، والعداء للغرب.
كما أن مقاصد الفِكر القاعدي لا تزال فاعِلة مَرغوبة في مقاومة الاحتلال لبلدان العالم الإسلامي والاحتلال الصهيوني.. وهو ما لم ولن يتبدل أو يتحول.
عادت مصر الآن كفترة السبعينيات حقلا ً خصبا ًللجهاديين، ورجعت تنظيمات الجهاد كما بدأت بنكهة مصرية خالصة.. حيث كانت الثورة كاشفة عن خلايا جديدة، لتدلل أنه لا تعارض مطلقا بين الربيع العربي وبين عودة العنف المقبل.
كما شكل الجهاديون الجدد عالما خاصًّا بهم يضاف إلى تلك العوالم التي شكلتها مجموعات جهادية أخرى في عالم افتراضي هو الإنترنت.
في النهاية فإن كتاب ماهر فرغلى الآخير، طرح عدة قضايا تتعلق بالمستقبل، بعد الخطاب الفكري والأيديولوجي الجديد للسلفيين، حيث سيعكس ذلك عدم توافق الرؤية بين الجناح الذي قرر ممارسة سلفية سياسية، وبين مشايخ السلفيين الكبار في الحركة، وهو الأمر المرجح، فالجناح الأول يبدو الأكثر تطورًا مع الأيام، والآخر لم ينزل إلى الملعب السياسي ومن ثم سيظل أكثر انغلاقًا وتحفظًا علي تقديم تنازلات، سواء في خطاب الحركة، أو في موقعها الحركي داخل النظام السياسي الجديد.
وقال الكاتب فى الختام: لن يكون مقبولا على سبيل المثال أن يظل السلفيون غير مؤطرين تنظيمياً، أو متخندقين في أطروحات دينية وفكرية دون الانفتاح علي التيارات والرؤى والأفكار الأكثر تقدمية واعتدالا، لكنهم سيكونون مطالبون بأن يضبطون خطاباتهم وتفاعلاتها الداخلية مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورات العربية، وأن يقوموا بتطبيق وتنفيذ ما أعلنوا عنه في حملاتهم الانتخابية، وإلا فإنهم سيفقدون أنفسهم، ويسيرون خلف المجتمع وليس في مقدمته، فما ما سبق سيؤدي إلى عودة للوراء، وانزواء لعدد غير قليل من السلفيين الممارسين لتلك العملية، بل وانفصال لجموع أخرى، فيما يستمر الظهور التدريجي لتشكيلات سلفية جديدة، قد تشبه إلى حد كبير تلك التشكيلات التي ظهرت إبان الثورة المصرية على نظام مبارك مثل سلفيي كوستا، والجبهة السلفية، والجبهة الشرعية، بل ولعل هذا ما سيفرز انقسامات متعددة بعد ذلك، لنتأكد أننا في اتجاه إلى تحولات واسعة ليس في التوجه الفكري والأداء السياسي فقط بل البناء التنظيمي للتيار السلفي عموماً.