أردوغان وحكاية الأنكار الأخوانية
02/03/2014 15:53هل حقًّا مكالمة أردوغان وبلال من نتاج "المونتاج"
قبل أيام قليلة تداولت مواقع الإنترنت بشكل لم يسبق له مثيلٌ مكالمةً هاتفية بين رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وابنه بلال، بحيث فاق عدد المطلعين على المكالمة خمسة ملايين شخص. ويدور كلام المحادثة حول محاولة إخفاء مبالغ كبيرة من المال غير شرعي عن عيون المحققين.
بالطبع صرح أردوغان بأن هذا التسجيل هو محض "مونتاج"، فهل ادِّعاء أردوغان هذا فعلاً صحيح ومؤكَّد؟
فمن وجهة نظر أخلاقية، ادِّعاء أردوغان يفتقر إلى كثير من المصداقية، فحتى الآن لم تتأكد صحة كل المزاعم التي سمعناها من رئيس الوزراء مؤخَّرًا، فكل ما ادَّعاه في الآونة الأخيرة من مثل "إنهم ضربوا امرأة محجَّبة في كاباتاش"، وأن "المدعي العام غادر البلاد 22 مرة" وأن "رجال الشرطة الذين تَنَصَّتوا عليّ لاذوا بالفرار"، و"أنهم شربوا الكُحُول في المسجد"، كل هذه الادّعاءات ظهر ببساطة أنها كذب. ومن ثَم، فرئيس وزراء كأردوغان، الذي ثبت أن عديدًا من تأكيداته في الآونة الأخيرة لا صحَّة لها،لم يعُد بإمكانه إقناع أي عاقل بزَيْف المكالمة الهاتفية.
ولنلقِ الآن نظرة على الحقائق الموضوعية المرتبطة بهذه المكالمة، ففي إطار تحقيقات الفساد كان هاتف بلال أردوغان مراقَبًا، وقد استُدعي للإدلاء بشهادته أمام المدَّعِي العامّ على نفس الخلفية، فإن كان استُدعِيَ للإدلاء بشهادته، فقد يكون بينه وبين المتورطين في قضايا الفساد مكالمات صوتية مسجَّلة. لهذا، يبدو أن وجود مثل هذا التسجيل الصوتي المرتبط ببلال أردوغان يتناسب و"السير العادي للحياة" في تركيا مؤخَّرًا.
ففي اللحظة التي وصلت فيها هذه التسجيلات إلى الإنترنت، تحركت دوائر حزب العدالة والتنمية فورًا للردِّ على ذلك عبر المواقع الاجتماعية، فكان أول حُجَجِهم أن صوت أردوغان في هذا التسجيل يرجع إلى وقت كان يتحدث فيه مباشرة على التليفزيون، وعندما ننظر في برنامج البَثّ في ذلك اليوم نكتشف بوضوح -للأسف- أن الحُجَّة واهية.
وعندما لم تنجح هذه الكذبة في إقناع الرأي العامّ، زعم بعض نواب حزب العدالة والتنمية المغرضين، بما في ذلك جمعة "إتشتن"، أن سُمَيَّة أردوغان كانت حينها في قونيا في احتفالات "ليلة الوصال" (مهرجان سنوي يُنَظَّم في قونيا احتفالا بذكرى جلال الدين الرومي)، ومن ثَم فمن غير المعقول أن تكون مع بلال في إسطنبول كما جاء في التسجيل. ولدعم الحُجَّة جاؤوا بصورٍ لها في الاحتفاليات في قونيا. وعندما كُشف أن الصور تعود إلى سنة 2012 اضطُروا إلى اختراع كذبات أخرى.
وإذا كان التسجيل مجرَّد مونتاج، فما هذا الذي أثار الذعر داخل دوائر الحزب، ودفعهم للإتيان بهذه السلسلة من الأكاذيب التي يعضِّد بعضها بعضًا؟ وما الذي دفعهم إلى محاولة إقناع الرأي العامّ بأن الصور المأخوذة سنة 2012 أُخذت سنة 2013؟
أردوغان حاول إثبات أن هذا الشريط مُمنتَج، مدعيًا أن حزبه باستطاعته أن يَخرُج بـ"مونتاج مماثل"، فهل توجَد حاجة حقيقية إلى مثل ردّ الفعل هذا؟ إن كان أردوغان متأكدًا من أن الشريط مُفبرَك، فما عليه إلا أن يستعين بخبير مستقلّ ليُثبِت صحَّة أو فبركة التسجيل، فإثبات ذلك لن يكون صعبًا لهذه الدرجة.
خلال المكالمة يقول رئيس الوزراء أردوغان لابنه: "سوف أبعث سُمَيَّة. تَحدَّث مع أخيك الأكبر، وعمك، وشقيق زوجتك. تعالوا جميعكم لكي نتخلص من هذه الأشياء في المنزل". من جانبه يردّ بلال أردوغان بأشياء مثل: "التقيت حسن وعمِّي برات" و"لماذا لا نعطي بعضا منه لفاروق؟" و"محمد غور شريكنا، لذا فإننا سوف نعطيه له".
وبشكل منطقي أكثر، فإننا نعرف من خلال المكالمة المسجَّلة في نحو الساعة الحادية عشرة صباحًا أنه: "لقد وصلَت سُمَيَّة إلى إسطنبول"، ومن خلال المكالمة المسجلة في الحادية عشرة مساءً نعرف أن "سُمَيَّة مع بلال"، فما نحتاج إلى إثباته في هذه الحالة بسيط جدًّا: فمحطات الهواتف النقالة الرئيسية يمكنها أن تعرف بالضبط أين كانت سُمَيَّة أردوغان خلال تلك الساعات. وإشارات الهاتف الخلوي يمكنها مقارنة المواقع والأوقات، وهذا ما سيحدد بالضبط ما إذا كان بين هذه الحادثة وما ورد في المحادثة المسجَّلة ارتباط.
فمثلاً، إذا تطابق فعلاً ما يقوله بلال أردوغان على التسجيل من أن "سُمَيَّة وصلت" مع إشارة الهاتف المحمول المنبعثة من جهة سُمَيَّة، فإن ذلك يعني أن ما ختم به بلال المكالمة صحيح. وإن لم يتطابق ذلك، فالعكس إذن هو الصحيح. وإذا كانت التسجيلات نتاج جهود دقيقة لفبركة مونتاج، كما يزعم أردوغان، فما علينا إلا أن نثبت عدم وجود سُمَيَّة عندما كان بلال يقول إنها هناك، من خلال الاعتماد على معطيات المحطة الرئيسية. بهذه الطريقة لن يحتاج حزب أردوغان إلى إخراج شريط مونتاج خاص به، بل بالعكس، ينبغي لأردوغان، بصفته رئيس وزراء، أن يُشرِك الرأي العامّ في تسجيلات المحطة الرئيسية لكي يتبين للجميع صحَّة أو كذب التسجيل الصوتي المسرَّب.
ويمكن أيضًا الاعتماد على تحليل دقيق لأنظمة الهواتف النقَّالة الإلكترونية المتكاملة، ولقطات الفيديو التي سجَّلَت خروج سُمَيَّة أردوغان من مطار أنقرة ووصولها إلى إسطنبول، من أجل إثبات حقيقة أو زيف التسجيل الصوتي.
لو كان التسجيل الصوتي مُمنتَجًا حقًّا، كما يؤكِّد رئيس الوزراء أردوغان، لاستعان بخدمات خبراء أتراك، أو حتى خبراء من وكالة "ناسا" الأمريكية، لإثبات ادِّعاءاته، أو على الأقل اعتمد على مُعطَيات محطات الهواتف النقالة الرئيسية لتأكيد ذلك، ومن ثم لأَعْلَنَ بذلك انتصاره على افتراء المكالمة المسرَّبة هذا منذ مدة. وبما أنه لم يتخذ أي إجراء من هذا القبيل، فمن الواضح أن قضية المونتاج ليست إلا ادِّعاءات أخرى جديدة من أجل التغطية والتستّر على قضية الفساد.